عانى وطننا الجريح من سبات طويل تحت وطأة الطغاة الذين حاربوا العلم والعلماء ، واكثر ما عانت من ذلك ، مدنه المقدسة التي تحتضن بين جنباتها اجساد الطهر من آل البيت عليهم السلام ، ومنها مدينة كربلاء المقدسة .
كربلاء المقدسة ... هذه المدينة التي تمتلك تأريخ زاخر في نشر علوم اهل البيت عليهم السلام ، كيف لا ؟ وهي كعبة عاشقيهم وملاذ لأفئدة محبيهم ، مما صيراها ـ في الماضي ـ محط لرحال طلاب العلم والسالكين فضلا عن اساتذة الحوزة العلمية والعلماء والمجتهدين الذين اغنوا الانسانية بالمعارف والعلوم المتنوعة ، الا ان للطغاة صولة الجبناء ، فكانت لهم اليد الطولى في العبث بهذه الصروح العلمية ، الا ان مشيئة الله جل وعلا شاءت ان تعود كربلاء المقدسة الى سابق عهدا منهلا علميا بعد زوال النظام العبثي الظالم .
مدرسة الامام الحسين الدينية ، عنوان لمدرسة الدينية ارتبط بموقعها المبارك ـ الصحن الحسيني الشريف ـ ارتباطا وثيقا ، إذ تأسست في داخل الصحن الشريف ، وكان لهذا التأسيس المبارك الاثر الكبير لإعادة الحركة العلمية لسابق عهدها في مدينة كربلاء المقدسة
ولنعرف اكثر عن هذه المدرسة وتاريخها ونشاطاتها ، حاورنا مدير مدرسة الامام الحسين الدينية سماحة الشيخ احمد الصافي ، والذي اكد من جهته : " ان تاسست هذه المدرسة كان في شهر شوال عام 1424 هجرية ، اي بعد سقوط النظام البعثي مباشرة ، مع انها لم تكن النواة الاولى لتدريس علوم اهل البيت عليهم السلام في كربلاء المقدسة ، بل كانت هناك اصول لها ولغيرها ، والاصول هي حلقات دراسية تعقد لطلاب الحوزة الدينية في المنازل والمساجد بعيدا عن عيون النظام واجهزته الامنية آن ذاك ، لتعقد بشكلها العلني ـ بعيد سقوط النظام العبثي ـ في داخل الصحن الشريف لحرم الامام الحسين عليه السلام بعنوان " حوزة اهل البيت عليهم السلام " ، الا أن الريادة تبقى لها من خلال جمعها لهذه الحلقات الدراسية تحت سقف واحد في موقعها الحالي داخل الصحن الحسيني الشريف ، وهو ما زادها رفعة وسمو وروحانية ، وجعلها محط اقبال طلاب المعرفة رغم افتتاح مدارس دينية اخرى في المدينة وربما بعضها بمواصفات عمرانية افضل "
عن ظروف تاسيس مدرسة الإمام الحسين عليه السلام وافتتاحها ، اشار الشيخ الصافي الى أنها : " كانت ظروف صعبة للغاية ، فبعد ان كانت مدينة كربلاء في الماضي ، حوزة علمية كبيرة وعظيمة تموج بالكثير من العلماء والفقهاء أمثال الشيخ الأنصاري والبهبهاني صاحب الحدائق والشيخ محمد صالح المازندراني المعروف بشريف العلماء الذي كان يعطي درس البحث الخارج لأكثر من ألف طالب ، الا أن حقبة النظام البائد كانت من أصعب الحقب الزمنية على مدينة كربلاء المقدسة ، خصوصا بعد ما قام هذا النظام الفاشي بقتل العلماء وتهجير البعض منهم وحبس البعض الأخر ، وتهديم المدارس الدينية والمكتبات الثّراء ، فاختفى اثر العلم والعلماء في مدينة كربلاء ، وأخر ما قام به ـ مستغلا الانتفاضة الشعبانية في اوائل العقد الاخير من القرن الماضي ـ هو تهديم مدرسة حسن خان الدينية والمدرسة الهندية والمدرسة المهدية والمدرسة السليمية وغيرها من المدارس ، وهذا ما كان دافعا لقيام أصحاب الفضيلة ممن استلم زمام الأمور في العتبة الحسينية المقدسة إلى تأسيس هذه المدرسة في ظروف أمنية وإدارية ومالية صعبة ، لتفتتح بعدها مدارس عدة كمدرسة الباقر عليه السلام في الجمعية ومدرسة الأنصاري في حي العباس وغير ذلك الكثير ، وهو ما اعاد الحركة العلمية رونقها في كربلاء المقدسة كما كانت في سابق عهدها " .
ولا شك أن لتأسيس مثل هذه المشروع في كربلاء المقدسة الأثر البالغ في نفوس المراجع العظام وعلى رأسهم أية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني ، حيث تحصلت مدرسة الإمام الحسين عليه السلام على الدعم والمباركة من لدنه بهدف نشر الوعي الديني خصوصا في مدينة مقدسة مثل كربلاء .
أما في ما يخص المناهج الدراسية التي تنتهجها المدرسة ، فقد أشار الشيخ الصافي إلى أنها : " مناهج حوزوية ومعتبرة لا تختلف عن المناهج التي تدرس في حوزة النجف الاشرف او حوزة قم المقدسة ، حيث ان درس التلاوة فيها من الدروس الأساسية ، ولم يقتصر على تحسين القراءة والتمكن منها من دون أخطاء فحسب ، بل تعمد المدرسة الى تخريج قراء معتبرين ومدراء محافل وأساتذة في تجويد وتلاوة القرآن الكريم ، وذلك واضح جلي بعد أن لوحظ تحسن قراءة الطلة ، ولا يستثنى القسم النسوي من ذلك "
وعن اهم نشاطات مدرسة الامام الحسين عليه السلام الدينية ، كشف مديرها عن : " ادارة مدارس أخرى في مدينة كربلاء المقدسة وخارجها والإشراف عليها ، بما يصل قرابة (35) مدرسة في عموم العراق ، فضلا عن إقامة دورات صيفية للأطفال مما كان لها الاثر البالغ على حياتهم وعائلاتهم ، ومن اثر ذلك أن احد المؤمنين ابلغنا بأن ابنه الصغير البالغ احدى عشر عاما اصبح يراقب والده أثناء الوضوء ويصحح له وضوءه بعد ان تخرج من احد هذه الدورات ، وبهذا تمكنت المدرسة من صنع معلم صغير في كل بيت ، من خلال هذا البرنامج الذي بدأ بـ (400) طالب ، في حين وصل اليوم الى ما يقارب (150,000) طالب وطالبة في عموم العراق وخارجه ، بعد أن وفقنا لإقامة هذه الدورات في الكويت والنروج واليمن وغير ذلك ، واليوم وبعد هذا الانفتاح والتوسع الكبير في عملنا ، اسند اقامة هذه الدورات لشعبة المدارس الدينية التي تقع تحت إشراف المدرسة ذاتها " .
ولم تغفل مدرسة الامام الحسين عليه السلام عن طلابها القادمين من خارج المحافظة بل وحتى من خارج العراق اذ عمدت الى توفير السكن الملائم لهم وللأساتذة والمحاضرين القادمين من خارج مدينة كربلاء وعائلاتهم ايضا ممن كان له نصيب من هذه الخدمة التي تقدمها المدرسة ، وفي ما يخص التعليم عن بعد فقد اشار الشيخ الصافي الى : " ان مدرسة الإمام الحسين عليه السلام تمتلك موقعا متقدما في التعليم فضلا عن منتداها ، وينقسم التعليم عن بعد او التعليم الالكتروني في المدرسة الى قسمين الاول منها ـ وهو الأهم ـ يسمى بالدراسة المفتوحة اذ عمدت المدرسة الى توفير غرف صوتية تبث فيها الدروس والمحاضرات بشكل مباشر ويتم الدخول الى هذه الغرف بطرق معينة كالرمز السري وغيرها عبر العالم لتلقى عليهم هذه الدروس والمحاضرات ، حيث ينتفع من هذه الخدمة ما يزيد عن (400) طالب وطالبة من مختلف الدول العربية والأوربية ، اما القسم الثاني فهو الواتس اب الذي يوفر الخدمة ذاتها ، كما ان لدينا قسم نسوي ويحظى باهتمام كبير كون المرأة لا تقل فهما وذكاء عن الرجل ، مع ان ثمة تفاوت في اقبال النساء على الدروس الحوزوية كونها منشغلة في الامور البيتية وتربية الاطفال " .
لقاءنا الثاني كان مع الشيخ علي محمد باقر العطار (احد الأساتذة المحاضرين في المدرسة ) ، والذي ابتدأ طريقه بدراسة العلوم الفقهية ابان النظام البائد في زمن كان طالب الحوزة العلمية مطارد غير آمن على نفسه بل ومراقب ، واتم طموحه بعيد زوال النظام البائد من خلال مدرسة الحسين عليه السلام كأحد طلابها ليكون بعد ذلك استاذ فيها .
حدثنا الشيخ العطار عن اجواء الدراسة في مدرسة الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام قائلا : " ان اجواء الدراسة في الحوزة العلمية تختلف تماما عن اجواء الدراسة الاكاديمية بل وحتى غير الأكاديمية ـ سبق لي ان درست في كلية الطب البيطري قبل ان انخرط في الدراسة الحوزية ـ حيث ان أوقات الدرس الفقهي تتسم بالروحانية خصوصا وهي داخل الصحن الشريف مما صيرها جنة داخل جنة ، ومن اثار ذلك هو هذا الاقبال الواسع من شريحة الشباب على دراسة علوم الدين في فيها ، بل ولم تقتصر على الشباب فحسب إنما تعدى الى معظم شرائح المجتمع كالشيبة منهم ، ناهيك عن تنوعك ارتباطاتهم بدء من التاجر والكاسب والعامل والموظف والأستاذ والطالب الجامعي " .
كما اضاف العطار : " ان دراسة العلوم الدينية والتفقه بها ضرورة ملحة لكل مسلم ، في ممارسة حياته الاعتيادية اذ هي اشبه بالقانون الوضعي الذي يدخل في تفاصيل ابسط الامور فالتاجر يحتاج الى التفقه في امور تجارته وكذلك الموظف وكذلك الطالب الجامعي الذي يختلط بالجنس الاخر وغيرهم ، فالكل يحتاج الى التفقه كي لا يقع في الشبهات ، وهو ما يدعونا الى بذل قصارى الجهود لنشر التفقه وعلوم الدين التي تأخذ بيد افراد المجتمع لتجاوز الصعاب ، ويبقى طموحنا الاخير هي ان نرتقي بالدراسة الحوزية في كربلاء المقدسة الى ما كانت عليه في ماضي الزمن لتكون مركز اشعاع علمي يخدم الانسان والانسانية امنى كان وكانت .
بخصوص النظام الدراسي المتبع في المدرسة والحوزات العلمية وادارتها ، حاورنا الاستاذ الشيخ جاسم حمزة الكركوشي (استاذ مدرسة الامام الحسين عليه السلام ومدارس اخرى) ، الذي اشار الى : " امكانية ان يتردد الطالب على اكثر من مدرسة ، لغرض الاستزادة من العلم او للحصول على دروس قد لا يحصل عليها في مدرسة ما ، شريطة ان لا يتعارض وقته في التردد على هذه المدارس ، وهذه الضوابط لا تختلف من مدرسة الى اخرى ومن ادارة الى اخرى ، في قت تحتم فيه ضوابط ادارة مدرسة الامام الحسين عليه السلام على الطالب اكمال المنهج المقدم له حتى ينتقل الى المنهج الاخر او المرحلة الاخرى مما يعطي للطالب فكرة شاملة عن المنهج المقدم له وهذا الامر ينسجم مع طالب العلم عادة ، وهو ما ميز مدرسة الامام الحسين عليه السلام عن باقي المدارس اداريا وعلميا وحتى خدميا ، دون ان نغفل موائز اخرى تتمتع بها هذه المدرسة ومنها موقعها في الصحن الحسيني الشريف واحتواءها على مكتبة عامة تستوعب كل ما يحتاجه الطالب من كتب ومؤلفات" .
كما قال الشيخ الكركوشي : " من الناحية العلمية يجد الطالب لدينا اكثر من حلقة للدرس الواحد ، فاذا لم يسعفه الدرس في حلقته هذه فقد يجده في حلقة اخرى ، وهذا الامر غير متوفر في باقي المدارس الحوزوية ، مع التأكيد على اهمية استغلال الوقت من قبل طالب العلوم الدينية بخلاف الطالب الاكاديمي ، باعتبار ان العلوم الدينية علوم تفصيلية تدخل في ابسط الامور وادقها على عكس من العلوم الاكاديمية وما تتسم به من اجمالية ، كما ان ما تمتاز به دراسة العلوم الدينية ما يمكن ان تضفيه على طلابها من تطور في الجانب الديني بإعتباره الباعث الحقيقي لدراسته ، فضلا عما تمنحه له من مكتسبات للسلوكيات الصحيحة ، مع دعوتنا له ـ طالب العلوم الدينية ـ بعد الوقوف عند هذا الحد بل لابد له من ان ينوع ثقافاته ـ خصوصا من يرغب بالخطابة ـ بما يوصله للجمهور ويقنعهم برسالته ومستواها ومراعاتها لجميع الافكار والعقول " .
عند هذه الكلمات ، ينتهي تحقينا هذا ، ولسان حالنا يقول " ستبقى كربلاء المقدسة كعبة العاشقين وملاذ العلم وطلابه " .
محمد العطار
160148092.jpg
160148143.jpg
160148164.jpg
160148225.jpg
160149146.jpg
160149197.jpg
160149229.jpg